
بقلم:- المعلم نمير ذنون
في ذاكرتي خبر تلفازي شاهدته في الثمانينات من القرن الماضي عن فرقة للرقص الهندي التقليدي وكان احد اعضاءها راقصة نحيفة ذات (16)ربيعا فبعد ان شاهدت عرضا للفرقة ، قدمت هذه الفراشة اوالزهرة الرقيقه عرضا وهي ترقص فوق لوحا من المسامير ، كانت ترقص فوقه وكانها ارضا ممهدة ومريحة .
و بعد انتهاءها جلست فوق اللوح وتم تصوير اسفل قدميها و لم يكن هناك اية آثار عليها . وهذا ما يدعى في الاصطلاحات اليوغية بالـبراتياهارا = قمع الحواس حيث ينتهي الالم و لا شيء في الحياة يلحق ضررا جسديا او روحيا بالانسان . و لكن هذه مرحلة متقدمة لدى اليوغيين فكيف وصلتها هذه الفراشة ذات الـ(16) ربيعا ؟ . و تمضي السنين ليقودني مساري في الحياة للاطلاع على بعض من الثقافة الروحية الشرقية عموما و الهندية من ضمنها ومن بعدها عرفت سر هذه الفراشة انه الـ(ناتاراج) .
هناك تصور خاطئ في عالمنا العربي بان اصطلاح الرقص محصور في الرقص الاستعراضي الاغرائي المعروف والراقصة في تصوراتنا هي انثى ( استعراضية- اغرائية) و لكن المفاجئة انه في الثقافة الهندية لا وجود لهذا التعريف فالراقصـة الهندية هي امراءة محترمة و فنانة راقية والسر هو في الـ(ناتاراج) .
(Nataraj) تعني الراقص الكوني وعادة ما يقال (شيفا ناتاراج) و شيفا هو احد الالهة الهندوسية من بين الهان اثنان اخران هما كالي و فشنو .
وحقيقة هذه الالهة الثلاثة هي انها تعبير عن ثلاث مبادئ كونية يؤمن بها الهندوس . فبراهمان ( = الله ) هو الاول الحقيقي و هو الذي اوجد هذه المبادئ الثلاثة في الكون و هي المبدا الذكري او الفعال او المدمر و صنعوا له رمزا هو ( شيفا) ثم اصبح احد الهتهم ، ثم المبدا الانثوي او السالب و هي كالي ثم فشنو و هو المبدا الحيادي او الحافظ و هذه كلها تحولت من مبادئ الى رموز ثم اصنام تعبد – حسب وجهة نظرهم- .
الفلسفة الهندية القديمة تعتبر ان الوجود الكوني ظهر من هذه المبادئ الثلاثة وصفته انه في حركة وتفاعلات وفق قوانين و نظام تنص عليها كتبهم كالفيدا والاوبنيشاد ، فصفة الكون ، انه راقص ( = جمالية الحركة و النظام و التناسق و الانسجام حتى في الظواهر العنيفة كالبراكين ) فالتفاعلات الكونية هي رقص كوني بالغ النظام و الجمال و لهذا فقد اقترن الرقص الهندي بالمعابد كذلك هو رقص يوغي .
الراقص يجسد جمالية الوجود ونظامية الكون في حركاته- ايماءاته الراقصه . رغم ذلك فان هذا ما زال لا يكشف سر تلك الزهرة الهندية ذات الـ(16) ربيعا و لا يكشف سر البراتياهارا .
في الرقص الهندي هناك مبدئين ( 1 ) هي ان الكون الصغير ( = الانسان) هو تجسيد مصغر للكون الكبير (2) يحتوي الانسان على نظام طاقي ( براني) في جسده هو انعكاس لما في الطبيعة و هذا معروف في اليوغا حيث نجد منظومة الشكرات و مسارات الطاقة التي تشبه خريطة ممتدة في ارجاء الجسد حتى في الاطراف والآذان .
والرقص الهندي هو رقص تعبيري – ايماءي و نمط من اليوغا الايمائية ( المودرا يوغا ) وهي يوغا تتعامل مع ازرار ومسارات الطاقة وتعالجها وتحركها عن طريق الايماءات اليدوية و الجسدية و نمط تأملي مناسب و الغرض هو انجاز الصحة او التنور الروحي كذلك فان هناك ظاهرة في الانسان و تحولت الى قاعدة في الرقص الهندي حيث ان اي نوع من الشعور او الحالات الباطنية سيظهر لها تجليات في الوجه او الجسد و يرافقها حالات طاقية ايضا ، فللحزن علامات في الوجه او الجسد و هكذا للفرح و الايمان و الحب و اخرى لهذا فعن طريق تجسيد الايماءات في الوجه او الجسد يمكن استحضار تلك الحالات النفسية او الروحية . كذلك فان لكل حالة نفسية هناك وضع او حالة طاقية في الجسد . فيقوم الراقص الهندي بتجسيد ايماءات في الوجه و اليد و الجسد ليستحضر ( مثلا ) الحالة الطاقية- الباطنية للايمان فتتحق الحالة المقصودة ، بعد ان مثل وضعها الجسدي او الايمائي و معها الحالة الطاقية . و هكذا فان هناك ايماءات جسدية طاقية لكل موضوعات الكون و الحياة حتى الاستقامة و الشرف و الصدق و روعة الكون او جمال الطبيعة …. الخ . فبهذا يملك الراقص الهندي قدرة التحكم بالطاقة في جسده و المشاعر او الاحوال الباطنية النفسية و العقلية في نفس الوقت . لهذا فان الراقصة الهندية تكون مستقرة روحيا وراقية اخلاقيا لانها مسيطرة على المشاعر والعقل و على نظامها الطاقي و منها قدرتها على افناء الالم او المعاناة و بهذا ستملك قوة البراتياهارا و تستطيع ان ترقص فوق لوح من المسامير .
في الرقص الهندي سنجد امكانية في التعبير عن كل شئ ، من شؤون الحياة الدنيوية او النفسية اوالحقائق الكونية واخرى و يمكن معالجة الجسد والنفس من الامراض او العقد ويمكن الارتقاء الروحي ( فالرقص الهندي رقص يوغي طاقي تأملي ) .
ولاجل توضيح التعبير او الايماءات نجد ان الراقصة الهندية ترتدي ثوب خاص ومكياج مناسب على الوجه و الايدي و الاقدام و هذا لاجل ان تتوضح الايماءات لدى المشاهد و ليقراء القصة او يعرف الحدث كذلك نجد اجراسا اسفل اقدامها و هي لاجل توضيح الايقاع ، فالصوت سواء أكان الفيزيائي او المانترا هو ظاهرة طبيعية او جزء من حقيقة الراقص الكوني .
و بما انه في الرقص الهندي يتم التحكم بالطاقة و الذات الانسانية ظاهريا و باطنيا ( نفسيا و عقليا ) و يمكن الدخول في الحالة التاملية للموضوع حينها تصبح السيطرة على الالم و المعاناة ضمن القدرات الطبيعية للراقصة الهندية و هنا ينكشف سر تلك الفراشة ذات الـ(16) ربيعا و كيف انها امتلكت قدرة البراتياهارا . رغم ذلك فان هذه القدرة تاخذ وقتا طويلا في التدريب فالامر ليس سهلا و لكن تلك الفراشة يبدو انها موهوبة لدرجة حرقت سنوات طويلة من التدريب و وصلت الى مرحلة روحية متقدمة .